
بعد نحو عشر سنوات من الانقطاع، صدر تقرير (التنمية البشرية في مصر 2021). عكست الاحتفالية بحضور رأس الدولة أهمية التقرير، كونه عين ترصد الواقع وتقارن مع الآخرين، وترسم مساراتٍ للمستقبل. من هنا جاء عنوانه الفرعي (التنمية حق للجميع.. مصر المسيرة والمسار).
أيضًا، تزامن توقيت الإصدار بعد سنوات من السير في دروب وعرة منذ يناير 2011. واجهت مصر –وما زالت- تحديات ارتبطت بالجغرافيا والتاريخ، بالموارد والمصير، بالثِقَل والتأثير. تلاها، جائحة كورونا وما سببته من تباطؤ عالمي للاقتصاد المنهك، ومع هذا حققت مصر نموًا إيجابيًا، 3,5%، في الوقت الذي سجلت فيه العديد من الدول مؤشرات سلبية
يتكون التقرير من ستة فصول، الاستثمار في البشر، الإصلاح الاقتصادي، الحماية الاجتماعية، المرأة، نظم الحماية البيئية، والحوكمة، بالإضافة إلى قسم عن مسار مصر 2030 لتعزيز التنمية المستدامة.
وسوف نعرض هنا للفصل الخامس لسببين، الأول تقاطع شئون البيئة مع كافة القطاعات، والثاني اقتراب موعد عقد قمة مؤتمر الأطراف السادس والعشرين Conference of Parties, COP ، المعني بشئون المناخ، في جلاسجو نوفمبر القادم.
كتب الفصل الدكتور إبراهيم عبد الجليل، أحد القامات المصرية والعربية في مجال البيئة، مستهلاً إياه بإطلالة على الإطار التشريعي، فبنص المادتين 45، 46 من دستور 2014 تضع الدولة التزامات سياسية واجتماعية لحماية البيئة وصولاً لتحقيق التنمية المستدامة اتساقًا مع القانون 4 لسنة 1994 وتعديلاته. ومع وجود وزارة للبيئة وجهاز تنفيذي تابع، يظل صياغة وتنفيذ السياسات البيئية مرهونًا بدور كافة القطاعات ذات الصلة
الهواء
طبقًا للمؤشرات العالمية، تتوسط مصر قائمة الأداء البيئي لعام 2020، المركز 94 من إجمالي 180 دولة، كنتيجة مباشرة لتحسن مؤشرات جودة الهواء، وخدمات مياه الشرب والصرف الصحي، علاوة على التوسع في مشروعات الطاقة المتجددة، ومردود ذلك على انخفاض معدل انبعاث غازات الاحتباس الحراري.
يصنف تلوث الهواء بأحد التحديات البيئية الكبيرة، وتتصدر القاهرة قائمة المحافظات، إذ يعيش فيها أكثر من عشرين مليون نسمة، ويحيط بها حزام من الصناعات الثقيلة، إلى جانب وجود أكبر أربعة مجمعات نفايات صلبة تستقبل سنويًا نحو 9,5 مليون طن.
وتعد المخاطر الصحية جراء التعرض لهواء ملوث بالجسيمات الدقيقة أو المياه غير الصالحة للشرب سببًا مباشرًا لاعتلال صحة بني البشر، الأمر الذي يضع تكاليف مالية إضافية غير مباشرة، تتمثل في ارتفاع الإنفاق على القطاع الصحي.
في هذا الإطار تعمل الحكومة المصرية على خفض مستوي الانبعاثات وذلك عبر نظام وطني للرصد والإبلاغ والتحقق إلى جانب التوسع في مشروعات الطاقة المتجددة وكفاءة الطاقة
المياة
يتربع نهر النيل على رأس نظم الموارد المائية العذبة بمصر، بحوالي 97%، مما يضع الأمن المائي على المحك، خاصة مع تجمد حصة مصر السنوية؛ حوالي 55 مليار متر مكعب مياه، منذ إقرار اتفاقية تقاسم مياه النيل عام 1959، وارتفاع عدد السكان من 20 مليون نسمة حينها إلى ما يزيد عن 100 مليون حاليًا، مما تبعه تناقص حصة الفرد من المياه العذبة لأقل من المعدل العالمي للفقر المائي، 1000 متر مكعب، ليصل عام 2018 إلى 585 متر مكعب. ولا يزال الانخفاض مستمرًا.
كانت اتفاقية 1959 قد اعتمدت على متوسط صافي تدفق 74 مليار متر مكعب سنويًا، خُصص منها للسودان 18,5 مليار متر مكعب. ومع هشاشة الوضع المائي لمصر، يشكل بناء سد النهضة الإثيوبي، في أعالي النيل الأزرق، مصدر خطر على حصتها من المياه، وبالتالي حياة ابنائها ما لم تؤسس قواعد ملئه وتشغيله على توافق الآراء بين البلدان الثلاثة؛ السودان وأثيوبيا، ومصر.
وتواجه مصر احتياجاتها الإضافية عبر آليتين، الأولي إعادة تدوير المياه وتحلية مياه البحر، والثانية استيراد مواد غذائية، بما يوفر 34 مليار متر مكعب مياه، مما يعزز نهج الإدارة المتكاملة للموارد المائية على أربعة ركائز؛ تنمية موارد المياه التقليدية وغير التقليدية (المالحة، الصناعية، والصرف الصحي)، الحفاظ على المياه وتعظيم القيمة المضافة لاستخدامها في قطاعات الاستهلاك، الإدارة المتكاملة للموارد المائية، وتحسين جودة المياه بخفض المواد الصلبة الذائبة.
إلى جانب مساهمته بنحو 7% من إنتاج الطاقة الكهربائية، يُكون السد العالي مع بحيرة ناصر وحدة عضوية لتخزين المياه إلى جانب صيد الأسماك، يصاحبها معدل بخر حوالي 10 مليار
متر مكعب سنويًا. ومع ارتفاع معدلات ملوحة بحيرة قارون
وبحيرات وادي الريان جراء خلطها بمياه الصرف الزراعي، تبنت الحكومة المصرية المشروع القومي لتنمية البحيرات، بهدف خفض التلوث والملوحة وتعظيم إنتاجية الثروة السمكية.
في ذات الإطار، وضعت الدولة ست خطط خمسية للتوسع في انشاء محطات تحلية مياه البحر على سواحل البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط، بدأت عام 2020، لتوفير نحو 6,4 مليون متر مكعب يوميًا بحلول عام 2050، لمواجهة النمو السكاني والتنمية العمرانية المتمثلة في إنشاء 22 مدينة جديدة، خلاف 30 مدينة يجري تطويرها.
يتواكب ذلك مع دعوات ترشيد معدلات الاستخدام، وتبطين الترع والمصارف لتقليل فاقد المياه ورفع الإنتاجية، ولعل أحدث محطة معالجة مياه صرف، كانت تلك التي افتتحها السيد الرئيس -خلال الأيام الماضية- في منطقة بحر البقر بطاقة انتاجية 5,6 مليون متر مكعب تُنقل إلى أراضي شمال سيناء لتساهم في استصلاح نحو 400 ألف فدان، مما يعدد زوايا الاستفادة من المشروع.
كما يصبح العمل على ابتكار آليات تخفض معدلات الاستهلاك أمرًا مُلحًا، وخاصة في القطاع الزراعي البالغ متوسط استهلاكه 80%، بزيادة 10% عن المعدل العالمي. في حين يستهلك القطاع السكني 13% عبر خطوط أنابيب تغطي حوالي 97% من سكان المناطق الحضرية و70% من سكان الريف.
ومع حساسية ملف المياه يصبح إنفاذ مواد القانون ذات الصلة بحماية المياه من التلوث، ومراعاة فصل النفايات الصناعية والمنزلية قبل صرفها في المسطحات المائية، مسئولية مشتركة يقف أمامها الجميع متساوون كأسنان المشط. حفظ الله الوطن.
.
.
.